المرحلة الثالثة في غزة- إسرائيل تعترف بالفشل والمقاومة تستثمر.

المؤلف: أحمد الحيلة10.22.2025
المرحلة الثالثة في غزة- إسرائيل تعترف بالفشل والمقاومة تستثمر.

في الآونة الأخيرة، تصاعدت حدة النقاشات في الأوساط الإسرائيلية، لتصل إلى خلافات حادة وتبادل اتهامات إعلامية بين أركان الحكومة من جهة، والجيش والأجهزة الأمنية من ناحية أخرى، حول طبيعة العلاقة العسكرية والسياسية مع قطاع غزة المحاصر. ففي حين يتبنى البعض، وعلى رأسهم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي المتطرف بن غفير، الدعوة الصريحة إلى إعادة احتلال القطاع، يرى الجيش الإسرائيلي ضرورة ملحة لوقف هذه الحرب المستمرة، والسعي نحو عقد اتفاق مع حركة حماس، معللين ذلك بأن العملية العسكرية قد استنفدت جميع أغراضها المرجوة، وأن استمرار بقاء الجيش في هذه المعركة، يخوض قتالًا شرسًا داخل المدن بتكتيكات متكررة ومكشوفة، لم يعد ممكنًا أو مجديًا.

هذه الخلافات المحتدمة، التي تتكشف فصولها في الشهر التاسع من العدوان المتواصل على غزة، تحمل في طياتها اعترافًا ضمنيًا بالفشل الذريع في تحقيق "النصر المطلق" الذي طالما تغنى به بنيامين نتنياهو. كما أنها تعكس الإخفاق المتتالي في تحقيق أي من الأهداف التي أعلنها مسبقًا، والتي تمثلت في القضاء التام على حركة حماس عسكريًا وسياسيًا، وتحرير الأسرى من الجنود والضباط بالقوة المسلحة، وعودة المستوطنين إلى مستوطناتهم المحيطة بغلاف غزة.

التقدير العسكري الذي يشير إلى انتهاء المعركة، يقابله تعنت من القيادة السياسية ورفض قاطع لوقف الحرب، وذلك لأسباب سياسية بحتة تتعلق بزعماء اليمين المتطرف ومصالحهم الضيقة. هذا التباين العميق كان سببًا جوهريًا في اتساع رقعة الخلاف والتراشق الإعلامي، خاصة بعد الفشل الذريع في تحقيق الأهداف المعلنة، والتآكل المستمر لقوة الردع التي طالما ارتكزت عليها دولة إسرائيل منذ نشأتها.

ملامح المرحلة الثالثة

وسط هذه الانقسامات الإسرائيلية المتزايدة، برز حديث بنيامين نتنياهو، معلنًا عن إحراز إسرائيل تقدمًا ملموسًا في إنهاء "مرحلة تدمير جيش حماس"، ومؤكدًا بأنه سيتعين على إسرائيل استهداف ما تبقى من عناصر الحركة مستقبلًا، مع الإشارة الواضحة إلى أن الجيش الإسرائيلي سيبدأ المرحلة الثالثة من القتال بعد انتهاء العملية العسكرية في رفح خلال الأسابيع القليلة القادمة.

هذا التصريح يشير بوضوح إلى أن نتنياهو قد بات يدرك تمام الإدراك عجز جيشه عن تحقيق النصر المطلق المنشود في قطاع غزة، وأنه لا مناص من التراجع خطوات إلى الوراء، والعمل وفقًا لتكتيكات الجيش الذي يدفع بقوة نحو ما يسمى "المرحلة الثالثة"، والتي تتضح ملامحها وفقًا لما يلي:

1- إعادة انتشار استراتيجي لجيش الاحتلال الإسرائيلي: يتمثل هذا الإجراء في التمركز بشكل أساسي داخل حدود قطاع غزة مع فلسطين المحتلة عام 1948، بالإضافة إلى التمركز على محور فيلادلفيا/ صلاح الدين مع مصر، ومحور "نتساريم" الاستراتيجي جنوب مدينة غزة، والذي يهدف إلى الفصل بين شمال القطاع ووسطه وجنوبه.

يهدف هذا التكتيك إلى تجنب البقاء داخل المدن المكتظة، والتي أصبحت تشكل عبئًا ثقيلًا واستنزافًا متواصلًا لجيش الاحتلال ماديًا وبشريًا؛ وذلك نتيجة الكمائن المحكمة التي أعدتها المقاومة الفلسطينية داخل المباني، وفي الطرقات، وتحت الأرض، الأمر الذي شكل كابوسًا حقيقيًا دفع نحو 900 ضابط من المستويات الوسطى في جيش الاحتلال إلى تقديم استقالاتهم في حالة استثنائية لم يشهدها الكيان من قبل، حيث يتراوح المعدل الوسطي لاستقالات الضباط سنويًا بين 100 و 120 ضابطًا فقط.

2- تنفيذ عمليات عسكرية أمنية موضعية ومحدودة: يقتضي هذا الإجراء تنفيذ هجمات محدودة ومنتقاة ضد أهداف معينة في قطاع غزة، سواء عبر الغارات الجوية أو القصف المدفعي، أو من خلال توغل كتائب عسكرية محدودة إلى بعض المناطق لساعات أو أيام معدودة ثم الانسحاب الفوري؛ بهدف إضعاف المقاومة الفلسطينية واستنزافها بشكل تدريجي وفق سياسة "جز العشب" المعهودة، في محاكاة واضحة لما يجري في الضفة الغربية المحتلة.

3- استغلال الكارثة الإنسانية المتفاقمة: يتمثل هذا الجانب في محاولة استمالة بعض الأفراد أو العائلات الضعيفة ليكونوا نواة لسلطات محلية مناطقية تخضع لإشراف وحماية الاحتلال، وذلك عبر توزيع المساعدات الإنسانية الشحيحة التي يتحكم الاحتلال في دخولها عبر سيطرته الكاملة على جميع المعابر الحدودية، لا سيما بعد التدمير الممنهج لمعبر رفح الحيوي مع مصر.

يهدف الاحتلال من وراء ذلك إلى استنبات سلطة محلية بديلة عن حركة حماس، تتولى إدارة الشؤون المدنية للفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر، بدعم من قوى إقليمية ودولية، وتحت الإشراف والسيطرة المباشرة لسلطات الاحتلال العسكرية، في محاولة لتشكيل صيغة مشابهة لما يجري في الضفة الغربية، لتحقيق الرؤية الاستراتيجية لليمين المتطرف بعزل الضفة عن القطاع وفرض السيطرة الكاملة عليهما.

استثمار فلسطيني مضاد

على الرغم من الأهمية التي توليها إسرائيل للمرحلة الثالثة، فإنها ستخلق في المقابل فرصًا ومساحات جديدة يمكن للمقاومة الفلسطينية استغلالها بفاعلية ضد الاحتلال وجيشه الذي سيعيد انتشاره داخل القطاع، وذلك على النحو التالي:

  • تقليل حدة القصف وتخفيف انتشار الجيش: من المتوقع أن ينخفض مستوى القصف الصهيوني وتراجع انتشار جيش الاحتلال داخل القطاع جغرافيًا، مما سيساهم في التخفيف من حدة الأزمة الإنسانية المتفاقمة. كما سيؤدي ذلك إلى تقليل أعداد الشهداء والجرحى، بالإضافة إلى الحد من عمليات النزوح المتكررة للمدنيين، وسيساعد اللجان المدنية والشرطية في استعادة زمام المبادرة؛ لترميم ما يمكن من الإدارة الحكومية لخدمة المواطنين وفق الإمكانات المتاحة.
  • إعادة ترتيب صفوف المقاومة وتكتيكاتها: ستتمكن المقاومة الفلسطينية من إعادة تنظيم صفوفها وتطوير تكتيكاتها العسكرية؛ بهدف استمرار استنزاف جيش الاحتلال وتركيز ضرباتها الموجعة على أماكن تواجده. ويظهر ذلك جليًا حاليًا في محور "نتساريم" الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه، مما سيبقي جيش الاحتلال وجنوده تحت الضغط النفسي والاضطراب المستمر، علاوة على تكبيدهم المزيد من الخسائر المادية والبشرية.
  • توسيع نطاق الخلافات بين الجيش والحكومة الإسرائيلية: من شأن استمرار حرب الاستنزاف أن يزيد من حدة الخلاف بين الجيش والقيادة السياسية، حيث يتخوف الجيش بشدة من فكرة الحكم العسكري المباشر لغزة؛ بسبب التكلفة البشرية والمادية الباهظة. وقد حذر وزير الحرب يوآف غالانت سابقًا من أن الحكم العسكري يتطلب حشد ثلاث فرق عسكرية كاملة، وتكلفة مادية تصل إلى نحو 6 مليارات دولار سنويًا للإدارة العسكرية فقط، دون احتساب تكاليف الشؤون المدنية.
  • إبقاء ملف الأسرى عالقًا: سيظل هذا الملف الشائك معلقًا بعد فشل جيش الاحتلال الذريع في إطلاق سراح الأسرى على مدار أكثر من تسعة أشهر من القتال الضاري، مما سيثير حفيظة عائلات الأسرى والرأي العام الإسرائيلي والمعارضة السياسية ضد الحكومة ونتنياهو شخصيًا. وسيكون هذا أحد أهم الملفات التي ستديرها حركة حماس والمقاومة ببراعة في إثارة الرأي العام الإسرائيلي ضد نتنياهو وحكومة اليمين المتطرف.
  • ملف النازحين من المستوطنين: سيظل هذا الملف بمثابة قنبلة موقوتة في وجه الحكومة الإسرائيلية التي لن تتمكن من إعادة نحو 250 ألف نازح إلى غلاف قطاع غزة أو شمال فلسطين الذي شهد إفراغ نحو 28 مستوطنة بالكامل. واستمرار الاشتباكات والمعارك سيضاعف الضغط على حكومة الاحتلال التي تتطلع جاهدة لإعادتهم وتسوية أوضاعهم قبل بدء العام الدراسي القادم في شهر سبتمبر/أيلول.

المرحلة الثالثة كعنوان لإدارة الحرب

تعكس هذه المرحلة بوضوح حالة الإرهاق الشديد والتعب الذي يعتري جيش الاحتلال وعجزه التام عن مواصلة القتال العنيف في مدن قطاع غزة، وذلك بعد الفشل الذريع في تحقيق الأهداف المعلنة والاستنزاف المتواصل لقواته، وتكبده خسائر مادية وبشرية فادحة، الأمر الذي دفع بالعديد من جنرالات الجيش إلى الحديث علانية أو بشكل غير مباشر عن ضرورة وقف القتال، كما جرى عبر صحيفة نيويورك تايمز قبل أيام، والتي نقلت عن 6 جنرالات إسرائيليين رفيعي المستوى، قولهم بضرورة وقف القتال والبحث الجاد في صفقة سياسية مع حركة حماس، حتى لو بقيت سلطة حاكمة في قطاع غزة.

المرحلة الثالثة في قطاع غزة، كأحد العناوين الرئيسية لإدارة الحرب والعدوان على القطاع، ترتبط أيضًا بشكل وثيق بمسار المفاوضات السياسية الجارية بين إسرائيل وحماس بشأن اتفاق وقف إطلاق النار، والتي تتم بوساطة أمريكية وبدفع قوي من الرئيس بايدن الذي يسعى جاهدًا للتوصل إلى اتفاق لتسويقه انتخابيًا.

كما أنها تتصل أيضًا بتصور كل طرف لإدارة قطاع غزة مستقبلًا، حيث تختلف معالم الرؤية الأمريكية اختلافًا جوهريًا عن رؤية نتنياهو واليمين المتطرف. وفي المقابل، تتمسك حركة حماس بإقامة إدارة فلسطينية وطنية لقطاع غزة، في ظل الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وأداء المقاومة الباسلة، وذلك على قاعدة راسخة وهي أن من يملك اليد العليا في الميدان هو من يرسم معالم المستقبل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة